د. سعد خلف من موسكو لـ«جسور بوست» (2-2): الفرصة الضائعة في المواجهة بين روسيا وأوكرانيا سبقت اندلاعها بشهر
د. سعد خلف من موسكو لـ«جسور بوست» (2-2): الفرصة الضائعة في المواجهة بين روسيا وأوكرانيا سبقت اندلاعها بشهر
- المعارضة الروسية للعملية العسكرية لا تشكل كتلة حرجة وليست قادرة على التأثير حتى الآن
- الإعلام الغربي أحادي النظرة في ما يتعلق بأحداث أوكرانيا ويصدر الاتهامات دون الالتزام بقواعد المهنية
- دول الخليج تدرك واقع ما يحدث وتتفهم معطيات الواقعية السياسية وتربطها علاقات مميزة مع روسيا
- الفرصة الضائعة في المواجهة العسكرية بين موسكو وكييف تعود إلى ما قبل مرحلتها الساخنة بشهر تقريباً
- خسائر روسيا كبيرة فالعقوبات لن ترفع سريعاً حتى لو انتهت مرحلة الحرب.. والسمعة الدولية تضررت
في الحلقة الثانية من حوار الدكتور سعد خلف الباحث في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية والشؤون الروسية والمقيم في موسكو، مع "جسور بوست"، تحدث عن اتجاهات الرأي العام الروسي حول العملية العسكرية، وتناول الإعلام الغربي للمواجهة المحتدمة بين موسكو وكييف، وعلاقة دول الخليج مع روسيا، والفرص الضائعة للحرب، وحصيلة خسائر روسيا من العملية العسكرية.
كيف يرى الروس تلك الحرب؟ وما تقييمهم لإدارة بوتين لها؟ وهل وجود رأي عام معارض قد يكون عاملاً مؤثراً في "معادلة البنادق"؟
بناء على مؤشرات استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز قياس الرأي العام في روسيا، وأبرزها مركز "عموم روسيا لأبحاث الرأي العام"، والذي يقدم بيانات تتسم بدرجة كبيرة من الثقة، كانت نتائج قياس الرأي العام في روسيا تشير إلى أن نسبة تأييد الرئيس بوتين قبل العملية العسكرية تبلغ تقريبا 60%، وبعد انطلاق العملية بثلاثة أيام ارتفعت هذه النسبة إلى 70%، ونسبة من يؤيدون العملية نفسها 73%، وبنهاية مارس تغيرت هذه النسبة مرة أخرى لتبلغ 81%، كما أن هناك نسبة تعارض العملية العسكرية منذ البداية، لا سيما أن المجتمع الروسي متنوع ومتعدد التوجهات، لكن تظل نسبة كبيرة من الرأي العام تؤيد قرار بوتين لعدة أسباب، أهمها ما يعانيه سكان دونباس الناطقون بالروسية من اضطهاد وتضييق إلى حد القتل منذ عام 2014، والتغطية المكثفة من جانب الإعلام الروسي لهذه الأحداث، ما أدى إلى توجيه الرأي العام لضرورة اتخاذ إجراء للدفاع عن هؤلاء "الأشقاء المقهورين"، خاصة في ظل مماطلة ورفض سلطات كييف الرسمية منذ 2015 تنفيذ اتفاقات مينسك، التي كان من شأنها تسوية هذه القضية بخسائر أقل لكل الأطراف.
المواجهة باتت كأنها ليست بين أوكرانيا وروسيا، بل حرب إستراتيجيات كبرى لإعادة إحياء التنفسية الدولية في مواجهة جيوبوليتيكية (تأثير الجغرافيا على السياسة) قوية تحاول روسيا في إطارها مقاومة مساعي حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة لاحتوائها، لكي تتفرغ في ما بعد للمواجهة الحاسمة لهذا القرن، أي مواجهة الصعود الصيني الذي يهدد بشكل مباشر الهيمنة الغربية المنفردة بقيادة واشنطن على النظام الدولي، منذ انهيار القطب الثاني (الاتحاد السوفيتي).
لذلك سعى الغرب منذ بداية الأحداث، عبر فرض عقوبات غير مسبوقة، لكي يستعدي الشارع الروسي ضد قيادته، لكن دون جدوى، لأن نسبة من يؤيد العملية العسكرية الآن بعد مرور شهر ونصف الشهر تقريبا أكبر من نسبة معارضيها، ولذلك من الصعب اعتبار المعارضة تشكل كتلة حرجة قادرة على التأثير، خاصة في ظل غلبة شعار “rally round the flag” (تجمع حول العلم)، لكن لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه المواقف في المجتمع إذا طال أمد العملية العسكرية وباتت التبعات والعواقب الاقتصادية لا تحتمل، لذلك أعتقد أن المسؤولين عن ملف السياسة الداخلية في الكرملين يدركون ذلك جيدا ويتابعون التغيرات عن كثب، وبناء على ذلك تُتخذ قرارات متعلقة بالسياسات الاجتماعية والتي -إلى حد كبير- تلقى ترحيباً داخلياً.
تقييمك لتناول الإعلام الغربي للعملية العسكرية خاصة في ما يتعلق بما سماه بـ"جرائم الحرب" ضد الشعب الأوكراني؟
تغطية الإعلام الغربي حتى الآن في أغلبها تبدو أحادية النظرة في ما يتعلق بأحداث أوكرانيا، حيث لا توجد زاوية أخرى للصورة، ولا تتاح الفرصة لعرض الشق الثاني من الحقيقة في هذه العملية العسكرية، من المفهوم أن أحداث أوكرانيا تنقل إلى الخارج بروايتين؛ الأولى: هي الرواية الأوكرانية الغربية ذات السطوة والانتشار وكثافة التغطية، والثانية: هي الرواية الروسية المسموعة داخل روسيا فقط تقريبا، خاصة بعدما قامت منصات التواصل الرئيسية مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها بحظر منصات القنوات والمواقع والوكالات الروسية الرئيسية.
بالطبع علينا أن نقر أن أي حرب وكل حرب هي أمر سيئ ومؤلم، لأن الكثير من الأبرياء يسقطون ضحايا لها وهم لا دخل لهم باتخاذ قرار الحرب، فضلا عن تهدم البيوت والاضطرار للجوء والنزوح وكلها ظواهر مؤلمة تنتجها الحرب، لكن بوجهة نظر موضوعية، ووفق بيانات الأمم المتحدة، إذا قارنّا أعداد الضحايا من المدنيين الذي سقطوا حتى الآن نتيجة لهذه الحرب في أوكرانيا بضحايا الغزو الأمريكي للعراق أو لأفغانستان عن مثل هذه الفترة، لن تكون المقارنة في صالح الولايات المتحدة بأي حال، ومع ذلك يُهوِّل الإعلام الغربي من ضحايا الحرب الروسية ويُصدِّر الاتهامات دون الالتزام بقواعد المهنية أو إجراء تحقيقات محايدة وموضوعية لإثبات صحة هذه الاتهامات.
ما تقييمك لموقف دول الخليج من العملية العسكرية الروسية، لا سيما في ما يتعلق بالإدانة الأممية وتعليق عضوية موسكو في مجلس حقوق الإنسان وملفي النفط والغاز والعقوبات الاقتصادية؟
دول الخليج تدرك واقع ما يحدث، وتتفهم معطيات الواقعية السياسية، فبلدان الخليج ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تربطها بروسيا علاقات جيدة وأصبحت أكثر تميزا خلال السنوات الأخيرة، وتشابكت وتعززت المصالح بين الأطراف في العديد من الملفات الهامة، أبرزها اتفاقات (أوبك+) وتأثيرها الكبير على سوق النفط، وهو اتفاق لافت قادته السعودية والإمارات وباقي دول المنظمة مع روسيا، فضلا عن كون السياسة الروسية تتميز بمبدأ مهم للغاية أعتقد أنه يلعب دوراً أيضا في تعاطي هذه الدول مع روسيا، وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما يخالف ويتباين مع مبدأ الإملاءات الأمريكي وسياسة التدخل الفظة لواشنطن، وخبرة السنوات الـ12 الأخيرة لكل بلدان المنطقة مع واشنطن أعتقد جعلت من يتخذ القرار في دول المنطقة يتأنى ويتعاطى بحذر في اتخاذ قرار بالاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك، خاصة وأنه من الجلي أن المسألة ليست مسألة أوكرانيا، بل في المواجهة بين القوى الكبرى.
البعض يعتبر أن الحرب الأوكرانية هي ثمرة الوعود الكاذبة بشأن توسع الناتو شرقاً.. فما الملامح الجديدة التي قد ترسمها تلك العملية العسكرية على مستقبل العلاقات الدولية؟
بحسب التصور الروسي تبدو الصورة هكذا فعلا، فالمشكلة تعود بحسب وجهة النظر الروسية إلى الوعود الكاذبة التي قدمها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، إلى رئيس الاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، لحظة انهيار حائط برلين، بأنه إذا وافق الاتحاد السوفيتي على مسألة إعادة توحيد الألمانيتين وبالتالي انضمامهما للناتو، فإن الحلف لن يتوسع ولا بوصة واحدة تجاه الشرق، أخطأ ميخائيل غورباتشوف عندما لم يطالب بتحرير هذه الوعود في صيغة وثائق قانونية ملزمة، لأن ما حدث بعد ذلك هو عدة موجات من توسع الحلف شرقا، أخطرها كان قبول بلدان البلطيق في عام 2004، حيث أصبحت قواعد الحلف العسكرية على بعد 150 كم تقريبا من الحدود الروسية، بعد أن كانت أقرب قواعده تقع على بعد 1500 كم تقريبا أو يزيد من حدود روسيا لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي.
ثم جاء قرار جورج بوش الابن عام 2008 بقبول انضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف، وإن كان ذلك لم يحدث على أرض الواقع، لكنه دفع القيادة الروسية والنخبة السياسية والعسكرية لاستشعار الخطر الشديد، ثم توالت الأحداث منذ ذلك الحين، أعتقد أن أوكرانيا -وزيلينسكي تحديدا- خُدعت من جانب الغرب والناتو، كما خُدع ميخائيل ساكاشفيلي عام 2008 ودخل في حرب أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ومصيره نعرفه جميعا، وهذا يبدو ما أوصلنا فعليا إلى مرحلة المواجهة العسكرية التي نشهدها الآن والتي يصعب التنبؤ بما قد تقود إليه، في ظل غياب الرغبة لدى الأطراف الرئيسية حتى الآن للجلوس والاتفاق والوصول إلى صيغ مقبولة لجميع الأطراف تحفظ الأرواح وماء الوجه.
أعتقد أن تغيراً حقيقياً يحدث الآن في منظومة العلاقات الدولية، ونظاماً عالمياً جديداً يتشكل في المهد، ونتائج الأحداث الجارية الآن ستكون بكل تأكيد حاسمة في الشكل والصورة التي سوف يبدو عليها هذا النظام العالمي الجديد.
لكل حرب فرص ضائعة.. فما تلك الفرص في العملية العسكرية على أوكرانيا؟
من وجهة نظري، الفرصة الضائعة في هذه المواجهة تعود إلى ما قبل مرحلتها الساخنة بشهر تقريبا، فلو كانت الولايات المتحدة وحلف الناتو أخذا الرئيس بوتين ومخاوف روسيا على محمل الجد، وجلست معه لمناقشة مقترحاته للضمانات الأمنية التي طالب بها، وتفاوضت كل الأطراف المعنية من أجل الوصول إلى صيغ مرضية، بدلا من إغراء الرئيس زيلينسكي بعدم الالتزام باتفاقات مينسك، لما كنا وصلنا إلى مرحلة الحرب المباشرة بالغة الخطورة على الأقل في الوقت الراهن، لكن الأحداث تجاوزت ذلك، ويبقى علينا فقط التطلع ألا تتسع رقعة هذه المواجهة بما قد يشكل تهديدا وجوديا للبشرية.
تقييمك لمكاسب وخسائر روسيا (داخلياً وخارجياً) بعد إنهاء العملية العسكرية على أوكرانيا؟
أعتقد أنه لا يزال من المبكر تقديم تقييمات دقيقة عن مكاسب أو خسائر روسيا قبل أن تنتهي فعليا العملية العسكرية، ونرى هل حققت روسيا ما كانت تسعى إليه من أهداف بدخولها إلى هذه المخاطرة الكبيرة التي حاولت تلافيها لسنوات عدة، وتحديدا منذ أحداث عام 2014، لكن مع ذلك يمكن القول إن هناك خسائر اقتصادية كبيرة، فالعقوبات لن ترفع سريعا على الأغلب حتى لو انتهت مرحلة الحرب، والسمعة الدولية إلى درجة ما تضررت، والمواطنون الروس يترقبون بقلق ما قد تأتي به الأيام المقبلة، فالمستقبل يبدو ضبابيا بالنسبة للكثيرين، لكن الشيء الأكيد هو أنه لا روسيا ولا العالم بعد انتهاء هذه العملية العسكرية ومرور هذه المرحلة سيكون الحال كما كان قبلها.